كتب: مهدي سجادي
ترجمة: علي زين العابدين برهام
لطالما احتلت البرامج التلفزيونية الخاصة بشهر رمضان المبارك مكانة مميزة وجذبت جمهورا خاصا في مختلف دول العالم، بما في ذلك إيران. ففي العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، أصبحت برامج السحور، وفقرات الإفطار، والمسلسلات الرمضانية، إضافة إلى برامج المناجاة والابتهال في ليالي القدر، من أبرز مكونات خارطة البث التلفزيوني الإيراني.
وخلال السنوات الماضية، كان برنامج “شهر العسل”، من إعداد وتقديم إحسان علي خاني، من أكثر البرامج مشاهدة قبل الإفطار على شاشة القناة الثالثة، حيث ركز على قصص ابتلاءات خاصة لدى أفراد ومصابين بحالات نادرة، ونجح في استقطاب شريحة واسعة من المشاهدين.
غير أن تحولا لافتا شهدته شاشة التلفزيون الإيراني قبل ثلاثة أعوام مع انطلاق برنامج جديد بعنوان “محفل“، والذي سرعان ما استطاع أن يحقق حضورا لافتا ويجذب قاعدة جماهيرية واسعة، ليس فقط داخل إيران، بل أيضا في الخارج. وقد ساهمت مقاطع البرنامج المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي في توسيع دائرة انتشاره، لتتحول فقراته إلى حديث المتابعين داخل إيران وخارجها.
ما يميز برنامج “محفل” أنه يقدم شهر رمضان بوجه مختلف، حيث يضع القرآن الكريم في قلب الحياة اليومية للناس، جامعًا بين الروحانية والأصالة والمعاصرة.
ما هو برنامج “محفل”؟
برنامج “محفل” هو برنامج تلفزيوني بأسلوب برامج اكتشاف المواهب، لكن بموضوع محوري يدور حول القرآن الكريم. يتكوّن البرنامج من خمسة خبراء (أو كما يُطلق عليهم مجازا “حكام”) ومُقدّم، إضافة إلى حضور جمهور من الناس، حيث يشهدون مشاركة أشخاص متميزين ومتقنين في مجال القرآن والحياة القرآنية
.
يستضيف البرنامج مجموعة متنوعة من الضيوف، يشملون أشخاصا من مختلف الخلفيات، يقدمون تلاوات مميزة للآيات القرآنية أو يشاركون تجاربهم وذكرياتهم المتعلقة بالقرآن الكريم وتأثيره في حياتهم اليومية. هذا العرض لا يركز فقط على التلاوة، بل يبرز بشكل لافت أهمية حضور القرآن في نسيج الحياة اليومية.
أما الخبراء المشاركون في البرنامج، فهم من النخبة الفاعلة في مجال القرآن سواء داخل إيران أو خارجها. خلال الحلقات، يشرح هؤلاء الخبراء المعاني المتنوعة المطروحة، ويتلون الآيات المناسبة بصوت عذب ومؤثر.
ومن السمات الجميلة للبرنامج أنه في كل مرة يُذكر فيها نص قرآني، سواء بشكل مباشر أو ضمني، تُعرض الآية مع ترجمتها الفارسية واسم السورة ورقم الآية على الشاشة، مما يربط المشاهد مباشرة بالنص القرآني.
من هم حكام برنامج محفل؟
إطلاق صفة “حكم” على خبراء “محفل” ليس دقيقا تماما، إذ لا يقوم البرنامج على فكرة التنافس أو المسابقة بمعناها التقليدي. البرنامج لا يتضمن تقييما تنافسيا بقدر ما يُعنى بإبراز الجوانب القرآنية وتقديمها للمشاهدين. ومن الجدير بالذكر أن تركيبة الخبراء بقيت ثابتة خلال أول موسمين من البرنامج، مع تغيير طفيف في الموسم الحالي حيث تم استبدال أحد الخبراء بآخر.
حامد شاكر نجاد
حامد شاكر نجاد، حافظ وقارئ دولي للقرآن الكريم، وُلد عام 1983 في مدينة مشهد الإيرانية. بدأ تعلم القرآن منذ طفولته، وكان يُقلد بشكل خاص أسلوب القارئ المصري الشهير مصطفى إسماعيل. يحمل شاكر نجاد سجلا حافلا، حيث حصل على المركز الأول في المسابقات الوطنية للقرآن الكريم التي نظمتها الأوقاف الإيرانية، كما نال المركز الأول في المسابقات الدولية للقرآن الكريم التي أُقيمت في المملكة العربية السعودية. له زيارات عديدة إلى الدول الإسلامية والعربية، حيث أدى خلالها تلاوات قرآنية مميزة. يتميز شاكرنژاد بأسلوب خاص وفريد في التلاوة، كما أن مظهره وطريقته في بعض المناسبات تذكّر بأسلوب قرّاء مصر التقليديين.
حسنين الحلو
حسنين جعفر حسن الحلو، قارئ ومؤذن ، من مواليد البصرة في العراق، ويقيم حاليا في كربلاء. هاجر مع عائلته إلى إيران عام 1991، حيث واصل تعلمه للقرآن في مدينة قم. كانت بدايته المتميزة في تقليد التلاوة على يد الشيخ محمد محمود الطبلاوي، ثم تتلمذ على أساليب الشيخ محمد الليثي، والسيد متولي عبد العال، والشيخ عنتر سعيد مسلم، إلى أن التقى عام 2004 بالأستاذ الشحات محمد أنور واستمر في التواصل معه. حصل حسنين الحلو على مراكز متقدمة في العديد من المسابقات الوطنية في العراق والدولية في مختلف البلدان، كما شارك كحكم ومؤد في عدة مسابقات قرآنية إسلامية. وقد تعرّف الجمهور الإيراني عليه في البداية من خلال برنامج “محفل”، وهو يتقن اللغة الفارسية بطلاقة.
غلام رضا قاسميان
تُعدّ الشخصية المتعددة الأبعاد لـ غلام رضا قاسميان من أبرز عوامل جاذبيته للمشاهدين. وُلد عام 1973، وهو خريج بكالوريوس الهندسة المدنية من أرقى الجامعات التقنية الإيرانية، جامعة شريف. في الوقت ذاته، تابع تحصيله العلمي في الحوزة العلمية حتى المراحل العليا، وهو أستاذ في الحوزة والجامعة. إضافة إلى ذلك، يتمتع قاسميان بموهبة فنية؛ فصوته الجميل يُضفي روحانية على منبره، كما أن خطه الجميل يمثل بُعدا فنيا آخر له في برنامج “محفل”. في كل حلقة، يقدم تأملات وتفسيرات حول الآيات القرآنية التي تُتلى. علاقته الوثيقة مع الشباب في الجامعات، وكذلك مع الناس في المساجد والمجالس الدينية، جعلت خطابه الديني قريبا من الناس وعصريا.
أحمد أبو القاسمي
وُلد الأستاذ أحمد أبو القاسمي عام 1968 في طهران، وكانت بداياته القرآنية من مسجد الحي، حيث حضر دروس القرآن الكريم، لتكون تلك الانطلاقة بداية مسيرة امتدت لأكثر من أربعة عقود في خدمة كتاب الله. أبو القاسمي من جرحى الحرب العراقية الإيرانية، حيث أصيب في رئته خلال الحرب، لكنه رغم ذلك لم يتوقف عن نشاطه القرآني. سافر إلى 37 دولة حول العالم، وأسهم بشكل فعّال في مؤسسات متعددة مثل منظمة الدعوة الإسلامية، وإذاعة القرآن، وحرم السيد عبدالعظيم الحسني، مقدما خدماته في نشر وتعليم القرآن الكريم بأسلوبه الخاص والمميز.
رضوان درويش
رضوان درويش، من مواليد 1965 في دمشق، متخصص في الاقتصاد وأب لخمسة أبناء. رغم أنه لا يتقن اللغة الفارسية وينتمي للمذهب السني، إلا أن هذه العوامل لم تقف عائقا أمام حضوره المؤثر وتواصله الصادق مع جمهور برنامج “محفل”. يتميز بأدائه العذب للمدائح النبوية والأنغام الروحانية في مدح النبي وأهل بيته، مما أضفى على البرنامج أجواء معنوية خاصة. شارك درويش في الموسمين الأول والثاني من البرنامج، وأصبحت عبارته الشهيرة «یا سلام سلّم» متداولة على ألسنة الكثير من المشاهدين الإيرانيين.
جلال معصومي
شهد الموسم الثالث من برنامج “محفل” انضمام شخصية جديدة إلى طاقم الخبراء، هو جلال معصومي، المولود في كابل، أفغانستان. تلقى تعليمه في إيران، المملكة المتحدة، وإسبانيا، ويتقن خمس لغات عالمية، مما أضفى بُعدا دوليا مميزا على البرنامج، خاصة من خلال تقديمه للأناشيد والتلاوات بلغات متعددة.
معصومي له حضور لافت في المحافل القرآنية الدولية، حيث تولّى التحكيم في مسابقات مرموقة ببريطانيا وتنزانيا، وأدى ختمات قرآنية في دول مختلفة من أمريكا إلى البوسنة. كما يشغل مواقع نشطة في الكلية الإسلامية بلندن وعدد من المدارس القرآنية العالمية.
ولا يقتصر تميّزه على المجال القرآني فحسب، بل هو أيضا فنان متعدد المواهب، له خبرة في مجالات الإخراج والإنتاج التلفزيوني، إضافة إلى الشعر والمسرح. صوته الدافئ العذب في تلاوة القرآن والابتهالات والتواشيح، إلى جانب إتقانه لعدة لغات، جعل منه شخصية محبوبة وقادرة على التواصل مع جمهور متنوع من مختلف الثقافات.
“محفل”: برنامج يتجاوز حدود إيران
لم يلبث برنامج “محفل” أن انطلق حتى فرض حضوره بقوة في الفضاء الإعلامي للعالم الإسلامي. مقاطع مختارة من فقراته تنتشر على نطاق واسع عبر منصات مثل يوتيوب، فيسبوك، وغيرها من المواقع، ليجد البرنامج جمهورا متنوعا خارج حدود إيران. كما ذكرت زينب نصرالله خلال مشاركتها في إحدى الحلقات، فإن بث البرنامج على قناة المنار اللبنانية جاء بناء على توصية خاصة من الشهيد السيد حسن نصرالله، بالتزامن مع بثّه من داخل إيران. غير أن انتشار “محفل” لم يتوقف عند لبنان، إذ تُظهر الإعلانات الرسمية للبرنامج أنه يُعرض كذلك على قنوات عراقية وتركية، مما يعكس امتداده الإقليمي الواسع.
وعلى منصات التواصل الاجتماعي، يحظى الحساب الرسمي للبرنامج على إنستغرام بأكثر من مليون متابع، ما يؤكد حجم الشعبية والتأثير الذي حققه في فترة زمنية قصيرة.
“محفل”: من برنامج تلفزيوني إلى ظاهرة اجتماعية
مع تزايد الإقبال الجماهيري على برنامج “محفل” داخل إيران، تحوّل من مجرد برنامج تلفزيوني إلى حركة اجتماعية حيّة تتجاوز الشاشة، حيث بات ينظم فعاليات جماهيرية ضخمة في مختلف مدن البلاد، بما في ذلك المدن ذات الأغلبية السنية كجزيرة قشم.
ومن أبرز هذه الفعاليات، انعقاد “أكبر محفل قرآني في العالم” في صحن حرم الإمام علي الرضا بمدينة مشهد، بمشاركة خبراء البرنامج، احتفاء بميلاد الإمام الثاني عشر من أئمة الشيعة. وقد جمع هذا الحدث الآلاف من محبي القرآن الكريم في أجواء روحانية مميزة.
وفي وقت سابق من هذا العام، خلال شهر رمضان المبارك، شهد ملعب آزادي بطهران، الذي يتسع لأكثر من مئة ألف متفرج، فعالية ضخمة بعنوان “المحفل القرآني الكبير للإمام الحسنيين”، تضمنت فقرات متنوعة مثل تلاوة القرآن، والأناشيد الجماعية، وعروض الألعاب النارية، وتوزيع هدايا قيّمة، إضافة إلى برامج ترفيهية هادفة. كما تم توزيع 150 ألف وجبة إفطار على الصائمين المشاركين، ليغدو هذا الحدث واحدا من أبرز مظاهر التفاعل الشعبي مع برنامج “محفل”، ويؤكد تحوّله إلى ظاهرة دينية وثقافية عابرة للحدود.
لقاءات “محفل”: على امتداد الأمة الإسلامية
لم تتوقف مسيرة “محفل” عند حدود إيران، بل تجاوزتها لتصل إلى قلب العالم الإسلامي. إحدى أبرز محطاته كانت في باكستان، حيث شهد البرنامج حضورا مذهلًا لنحو 85 ألف شخص، في تظاهرة قرآنية كبرى عبّرت عن روح الوحدة الإسلامية تحت لواء القرآن الكريم، مؤكدة أن رسالة “محفل” ليست محلية فحسب، بل أممية الطابع.
موضوعات استثنائية في “محفل”
برنامج “محفل” لا يقتصر على استضافة قُرّاء وحفّاظ متميزين وتلاوات عذبة فحسب، بل يتناول باقة غنية من القضايا الإنسانية والاجتماعية ذات الطابع القرآني، تجعل منه برنامجا فريدا في محتواه. من بين أبرز هذه المشاهد: مشاركة أول قارئ مصري في إيران منذ سنوات طويلة، وحضور كاهن مسيحي يبرز المشتركات القرآنية في تجربته الدينية، واستضافة قُرّاء من الدول الأوروبية، فضلا عن لقطات إنسانية مؤثرة كحضور فتى مصاب بالتوحد، رغم عجزه عن الكلام، إلا أنه يميّز صفحات القرآن بسرعة مدهشة.
كل هذه الموضوعات تُعبر عن تنوّع البرنامج وعمقه، وتجسد كيف يمكن للقرآن أن يكون حاضرًا في مختلف تجارب الحياة اليومية.
الخاتمة
نجح “محفل” في اقتحام قلوب الناس داخل إيران وخارجها، حتى صار علامة بارزة في الإعلام الديني والثقافي بالعالم الإسلامي. وكما عبّر أحد النقاد، فإن البرنامج كان أشبه بانفجار إعلامي إيجابي في العالم الإسلامي، لما يحمله من تأثير عميق.
الجمع المتقن بين الفن والمعرفة، بين الدموع والابتسامة، بين القيم الراسخة والواقع المعاش، جعل من “محفل” تجربة فريدة يتردد صداها بين الشعوب الإسلامية، ويكاد يخلو المشهد الإعلامي من أي انتقاد يُذكر لهذا البرنامج.
لقد أصبح “محفل” بحق جسرا لتعزيز الروابط بين أبناء الأمة الإسلامية، مرتكزا على القرآن الكريم، وسنة النبي الكريم، ومحبة أهل البيت عليهم السلام. كما أنه يمضي قدما في ابتكار مبادرات إبداعية جديدة، ليواصل توسعه عاما بعد عام، ويكرّس حضوره كظاهرة ثقافية ودينية متألقة في العالم الإسلامي.