كتب: مصطفى أفضل زادة/مراسل “زاد إيران” في طهران
ترجمة: علي زين العابدين برهام
في وقت يغلي فيه الشرق الأوسط من لبنان إلى غزة، وتكشف أجهزة الاستخبارات الأمريكية عن أنشطة نووية جديدة لإيران، برز وجه غير مألوف في الأوساط الدبلوماسية وكواليس مفاوضات الخليج: رجل أعمال نيويوركي في مجال العقارات، لا خبرة له في السياسة الخارجية، لكنه يحظى بثقة مطلقة من دونالد ترامب.
ستيف ويتكوف، الصديق القديم للرئيس والمطوّر المعروف للعقارات الفاخرة، الذي لطالما ارتبط اسمه بكبار مستثمري وول ستريت ورجال صناعة القمار أكثر من الساسة وضباط الاستخبارات، بات بهدوء أحد اللاعبين الأساسيين في صياغة الاستراتيجية الجديدة لإدارة ترامب تجاه إيران.
في قرارٍ أثار دهشة العديد من محللي السياسة الخارجية، وأغضب بعض الجمهوريين المخضرمين في مجال الأمن القومي، عيّن دونالد ترامب، في أوائل عام 2025، ستيف ويتكوف مبعوثا شخصيا له إلى الشرق الأوسط.
وبحسب مصادر مطلعة على مسار اتخاذ القرار، شملت هذه المهمة مسؤولية مباشرة عن استكشاف قنوات التواصل مع طهران، والتمهيد لاتفاق جديد مع إيران، وهو اتفاق كان ترامب يراه إرثه في السياسة الخارجية.
في فبراير/شباط 2025، قال ترامب ردا على سؤال للصحفيين: “ستيف هو الشخص الذي أثق به، يعرف كيف يُبرم صفقة. قد لا يكون أكاديميا، لكنه يعرف كيف يُقنع الناس بالجلوس إلى طاولة المفاوضات”.
لكن منتقدين يرون أن هذا القرار يُجسّد الطابع الشخصي والعفوي، بل والخارج عن الأعراف المؤسسية، الذي تتخذه السياسة الخارجية لترامب في ولايته الثانية.
وقال مسؤول سابق في مجلس الأمن القومي الأميركي، رفض الكشف عن اسمه: “المشكلة ليست في الكفاءة فحسب. المسألة أن هذا الشخص أُوكلت إليه مهمة بهذه الضخامة دون أن يملك أي خبرة مؤسسية في قضايا نزع السلاح، أو ديناميات القوة الإقليمية، أو حتى في أبسط قواعد السلوك الدبلوماسي”.
ومع ذلك، فإن هذه القفزة الغريبة إلى قلب دبلوماسية محفوفة بالمخاطر، قد تبدو لويتكوف، البالغ من العمر 67 عاما، خطوة طبيعية بعد عقود قضاها في عالم الصفقات العقارية، حيث كان تجاوز الأزمات والتفاوض مع كبار الشخصيات جزءا من روتينه اليومي.
وفي مقابلة أجراها في 21 مارس/آذار مع “تاكر كارلسون”، قال ويتكوف: “أنا لست قادما من شارع فاغي باتم” {في إشارة إلى مقر وزارة الخارجية الأمريكية}، “بل جئت من كوينز وول ستريت”.
برز ستيف ويتكوف في تسعينيات القرن الماضي داخل سوق العقارات التنافسي في نيويورك، حيث ذاع صيته بسرعة. وتعود علاقته بدونالد ترامب إلى عقود سابقة، حين كانا يتحركان في الدوائر التجارية نفسها، ويتشاركان أسلوبًا هجوميًا وجريئًا في عقد الصفقات.
منذ عام 2016، أعلن ويتكوف دعمه الصريح لترامب، ولعب دورا فاعلا في جمع التبرعات، وتنظيم شبكة العلاقات مع المستثمرين الجمهوريين. ومع ذلك، لم يتوقع كثيرون أن يتحول، بعد نحو عقد من الزمن، إلى وسيط بين دبلوماسيين عرب وإسرائيليين، بل وحتى مبعوثين أوروبيين، يبحث سبل استئناف التفاوض مع طهران.
التحول المفصلي بدأ عقب فوز ترامب في انتخابات 2024. ووفقا لما نشره موقع “أكسيوس”، ففي أوائل عام 2025، ومع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، على خلفية الهجمات الإسرائيلية ضد قوات موالية لطهران في سوريا وتهديدات حزب الله، قرر ترامب فتح مسار دبلوماسي بديل. وفي تلك اللحظة، وقع اختياره على ويتكوف.
قال دبلوماسي من الشرق الأوسط شارك في المفاوضات: “كان لديه أذن ترامب، ولم يحمل معه أي عبء بيروقراطي زائد. إذا كانت هناك صفقة على الطاولة، فإن ترامب أراد أن يكون رجله في الغرفة، لا شخصا من وزارة الخارجية أو وكالة الاستخبارات المركزية”.
وفي أواخر يناير/كانون الثاني، أفادت صحيفة فايننشال تايمز بأن ويتكوف يؤدي دور “مبعوث إيران”. ورغم امتناع البيت الأبيض في ذلك الوقت عن تأكيد هذا التوصيف رسميا، أكدت مصادر مطلعة أن ويتكوف كان قد بدأ بالفعل اتصالاته مع مسؤولين في الخليج وإسرائيل وأوروبا لتمهيد الطريق نحو محادثات محتملة.
وفي 19 مارس/آذار، ذكرت صحيفة بوليتيكو أن ويتكوف لم يُكلّف بملف إيران فحسب، بل أصبح أيضًا مسؤولا عن ملفات لبنان وغزة. وبحلول هذا الوقت، لم يعد بالإمكان إنكار دوره في سياسة ترامب الخارجية.
في انعطافة واضحة عن سياسة “الضغط الأقصى” التي ميزت الولاية الأولى لترامب، والتي شملت الانسحاب من الاتفاق النووي واغتيال قاسم سليماني، تبنّى ويتكوف نهجا أكثر مرونة. ففي مقابلة مع تاكر كارلسون، قال: “لسنا مضطرين لحل كل شيء بالخيار العسكري. يمكننا تصميم برنامج تحقق مع إيران يشعر فيه جميع الأطراف بالأمان”.
وبحسب تقرير نشره موقع ريسبانسبل ستيتكرافت، شدد ويتكوف على أن الرسالة الخاصة التي بعث بها ترامب إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، عبر وساطة عمانية، لم تكن تهديدا بل دعوة لبدء حوار. وأضاف: “لم تكن الرسالة إنذارا، بل كانت محاولة لإيجاد مخرج من الأزمة”.
هذا النهج لم يلقَ استحسانا لدى بعض أعضاء الفريق الأمني لترامب، كما قوبل برفض من شخصيات متشددة داخل الحزب الجمهوري. ففي تقرير نشره موقع Jewish Insider في 19 مارس/آذار 2025، انتقد عدد من المسؤولين السابقين، من بينهم إليوت أبرامز—المبعوث السابق لملف إيران في إدارة ترامب الأولى—دور ويتكوف، وقال أبرامز: “يبدو أن ترامب يريد أن يتولى ويتكوف ملف المفاوضات مع إيران، لكن المشكلة أن ويتكوف يفتقر إلى أي إلمام بالتفاصيل الفنية”.
في الكواليس، نشأت توترات واضحة بين الفريق غير الرسمي لويتكوف وبعض الشخصيات المتشددة في البنتاغون ومجلس الأمن القومي. وبحسب تقرير نشرته طهران تايمز في 27 مارس/آذار 2025، أبلغ دبلوماسيون أوروبيون عن وجود انقسامات داخل إدارة ترامب حيال كيفية التعامل مع إيران: ففي حين كان بعض المسؤولين يدفعون باتجاه تدمير كامل للبنية التحتية النووية الإيرانية، ركّز ويتكوف على خيار التحقق النووي وتطبيع العلاقات التجارية.
وقال دبلوماسي غربي: “ويتكوف يسعى إلى صفقة كبرى، شيء ذو طابع استعراضي، بينما يطالب آخرون بانسحاب إيراني كامل. هذا تناقض جوهري في النهج السياسي”.
لكن النفوذ المتصاعد لويتكوف تجلّى بشكل أوضح في الملف الإسرائيلي؛ حيث يُعتقد أنه لعب دورا رئيسيا في التوصل إلى هدنة مؤقتة بين إسرائيل وحماس مطلع مارس/آذار.
ووفقا لتقرير الغارديان الصادر في 22 فبراير/شباط 2025، استثمر ويتكوف علاقاته مع جاريد كوشنر وعدد من المستثمرين الإسرائيليين للضغط على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من أجل القبول بخفض التصعيد، في خطوة وصفها محللون بأنها تهدف إلى فتح نافذة تفاوض مع طهران.
كان هذا التوازن بين دعم إسرائيل والحوار مع إيران انعكاسا للتناقضات العميقة في سياسة ترامب تجاه الشرق الأوسط. لكن بالنسبة لويتكوف، كان كل شيء يعود إلى منظور تجاري، مفاوضات “رابح-رابح” بدلا من الإيديولوجيا. وفي حديثه مع “فوكس نيوز”، قال: “رئيسنا تاجر. هو لا يؤمن بالحروب التي لا تنتهي. يؤمن باستخدام الأدوات بحكمة”.
ومع ذلك، كان وجود مستثمر عقاري في قلب مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة والحوار مع إيران أمرا غريبا ومقلقًا للكثيرين. وقال مسؤول سابق في وزارة الخارجية: “لا يمكن إدارة الشرق الأوسط كما لو كان نزاعا بين مستأجري برج ترامب”.
ومع اقتراب الانتخابات النصفية لعام 2026، بينما يتشكل برنامج السياسة الخارجية لترامب في ولايته الثانية، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان دور ويتكوف مجرد مبادرة مؤقتة وتكتيكية أم أنه يعكس تغييرًا جذريًا في أسلوب صنع السياسة الخارجية لحكومة ترامب.
يقول داعموه إن غيابه عن المناصب الرسمية في الحكومة هو نقطة قوته. وقال أحد المسؤولين من دول الخليج الذين التقى بويتكوف في أبوظبي: “هو يتحدث بشكل مباشر ولديه وصول إلى ترامب، وهو أمر لا يمتلكه كثيرون”.
مع ذلك، يُعرب المنتقدون عن قلقهم من أن الطابع غير الرسمي لدبلوماسية ويتكوف قد يؤدي إلى أخطاء خطيرة، خصوصا في مسألة حساسة مثل إيران. يقول محلل سابق في وكالة الاستخبارات المركزية: “إذا انتهى هذا المسار إلى اتفاق غامض أو حتى إلى صراع، فسيكون السؤال: من أين نشأت عملية صنع السياسة؟ ربما يكون الجواب: من البنتهاوس في ميامي”.
في الوقت الراهن، يُعتبر ستيف ويتكوف الرجل الذي يقف في قلب المقامرة الجديدة لترامب في الشرق الأوسط. ما إذا كان سيتمكن من إبرام اتفاق مع إيران أو سيتسبب في أزمة جديدة قد يحدد مصير ولاية ترامب الثانية، وربما يقرر أيضا مستقبل السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة.