كتب: أمير عباس حسني زادة
ترجمة: علي زين العابدين برهام
في وقت يشهد فيه العالم استمرار الحرب والقصف المتواصل على غزة، استيقظت طهران صباح الجمعة، 28 مارس/آذار 2025 على صدى شعارات مألوفة تملأ شوارعها كل عام في آخر جمعة من شهر رمضان: «الموت لأمريكا»، «الموت لإسرائيل»، «القدس لنا”.
توجه المواطنون، عبر عشرة مسارات حددتها اللجنة المركزية المنظمة للمراسم، نحو وجهة باتت لأكثر من أربعة عقود رمزا للتضامن والاحتجاج. تلك المسارات التي تنتهي عند جامعة طهران، مقر إقامة صلاة الجمعة، تشكل ختام مسيرة جماهيرية وبداية رسالة سياسية واضحة.
مبادرة الإمام الخميني: بداية لمسار عالمي
تم إعلان “يوم القدس العالمي” لأول مرة في 13 رمضان 1399، بمبادرة من الإمام الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران؛ وجاءت هذه الخطوة كردٍّ واضح على اعتداء القوات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وقصف المناطق السكنية في جنوب لبنان. وقد دعا الإمام الخميني، في رسالة تاريخية، مسلمي العالم إلى التوحد والتضامن في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الغاصب وداعميه الدوليين.
تحولت هذه الدعوة إلى حركة عالمية. واليوم، وبعد مرور 45 عاما، أصبحت مسيرات يوم القدس تُنظّم في عشرات الدول، وخاصة في إيران، كرمز عابر للحدود للصمود في وجه الاحتلال والتمييز.
من ميدان الثورة إلى جامعة طهران
عند الساعة الثامنة والنصف صباحا، كانت محطة مترو “ميدان الثورة” تغص بالحشود؛ عائلات ترافق أطفالها الصغار، شيوخ يلفّون أعناقهم بالكوفية الفلسطينية، طالبات جامعيات يرتدين كوفيات كتب عليها «القدس لنا»، وشباب يحملون أعلام إيران وفلسطين جنبا إلى جنب.
من الجهة الشرقية، دخل موكب من رجال الدين وطلبة الحوزة العلمية إلى شارع “آزادي”، بينما توافدت من الجنوب مجموعات شعبية تحمل لافتات بلغات عربية وإنجليزية، كُتب عليها:
“أوقفوا جرائم إسرائيل”
“فلسطين يجب أن تتحرر”
في منتصف الطريق، كانت مكبرات الصوت المثبتة على شاحنات صغيرة تردد الهتافات، فيما تتعالى أصوات الحشود بترديدها بشكل متناغم ومفعم بالحماس. وفي لحظات مؤثرة، كانت تنبعث من السماعات أناشيد بصوت المنشد الإيراني صادق آهنكران، الذي يذكّر صوته ببطولات الإيرانيين في حربهم مع العراق، لتخيّم على الجموع لحظات من الصمت المهيب والتأمل العميق.
صوت الناس، حكاية الميدان
بالقرب من تقاطع “ولي عصر”، يقف علي رضا كاظمي، سائق تاكسي يبلغ من العمر 36 عاما من مدينة “إسلام شهر”، برفقة ابنه ذي السبعة أعوام. وضع في يد طفله علما صغيرا، وقال لمراسل “زاد إيران”:
“كنت أشارك كل عام في مسيرة يوم القدس، لكن هذه المرة كان الشعور مختلفا. عندما رأيت أطفالا في عمر ابني مدفونين تحت الأنقاض في غزة، قررت أن أحضره معي. يجب أن يدرك أن العالم ليس دائما مكانا آمنا، وأحيانا علينا أن نقف مع المظلوم، حتى وإن كنا عاجزين عن تقديم العون. قد لا توقف مشاركتنا القنابل، لكن اللامبالاة أخطر من أي سلاح.”
وعلى مسافة قريبة، تتحرك مجموعة من كبار السن على كراسي متحركة باتجاه جامعة طهران، يعاونهم متطوعو الهلال الأحمر. من بينهم مهدي نيك نام، أحد جرحى الحرب الإيرانية العراقية، يقول بصوت مرتجف:
“رأيت الحرب، ولمست الموت عن قرب، لكن ما يجري الآن في غزة أشد إيلاما من الموت ذاته. جئنا اليوم لأن الصمت خيانة، وإذا صمتنا، فهذا يعني أن كل ما ضحّينا من أجله قد نُسي.”
النساء… صوتٌ باقٍ في الميدان
بجوار محطة الحافلات عند تقاطع “كالج”، كانت مريم زارعي، ممرضة في مستشفى “الإمام الخميني”، تقف مع شقيقتها الصغيرة ذات التسعة أعوام. لا يزال الرداء الأبيض واضحا تحت عباءتها. تقول:
“كنت في نوبة ليلية البارحة، ونمت فقط لنصف ساعة صباحا، ثم جئت للمشاركة في المسيرة. لم أستطع البقاء في البيت في مثل هذا اليوم. كل يوم في المستشفى نواجه الموت عن قرب، لكن ما نراه في أخبار غزة مؤلم بدرجة لا تُقارن. ما يحدث هناك هو إهانة للإنسانية. جئت اليوم لأقول إننا لا زلنا أحياء، ولا يزال لدينا ضمير.”
الأطفال… صورٌ من المستقبل
في شارع “آزادي”، العائلات كثيرة. الأطفال يحملون رسومات للمسجد الأقصى. فتى في الحادية عشرة من عمره، يرتدي قميصا أحمرا، يهتف: “لا صلح، لا استسلام، النصر حليفنا.”
فاطمة نوروزي، معلمة في المرحلة الثانوية من مدينة “الري”، حضرت مع ابنتها المراهقة. بابتسامة يملؤها الألم، تقول:
“في المدرسة، يسألني طلابي دائماً عن جرائم إسرائيل في غزة، ويشاهدون صور الشهداء الفلسطينيين، ويتابعون الأخبار باهتمام. اليوم أصرت ابنتي على مرافقتي إلى صلاة الجمعة، وأحضرتها معي لتدرك أن الطيبة لا تكتمل بالشفقة وحدها، بل أحياناً يجب أن تُترجم بالحضور والموقف.”
جامعة طهران… التجمع الختامي ومنصة الرسالة
مع اقتراب الظهر، تتدفّق الجموع من كل الاتجاهات نحو ميدان الثورة، ثم شارع “16 آذر”. ساحة جامعة طهران تم تجهيزها مسبقا: منصات الصلاة، وأنظمة الصوت، والأجنحة الثقافية، والفرق الإعلامية.
عند المدخل الرئيسي، يقف رضا جوادي، طالب هندسة يبلغ من العمر 19 عاما، برفقة أصدقائه، ويقول:
“جيلنا نشأ في عالم وسائل التواصل. البعض يصفنا باللامبالاة، لكن الحقيقة أننا رأينا جميعا مقاطع الفيديو القادمة من غزة، ولا يمكننا تجاهلها. جئت إلى هنا لأني لا أريد أن أكون ممن يكتفون بالإعجاب بمنشورات عن غزة ويمضون في حياتهم وكأن شيئاً لم يكن.”
في الصفوف الأمامية، يشارك عدد من المسؤولين الرسميين في إيران: رؤساء السلطات، الوزراء، القادة العسكريون، وشخصيات سياسية بارزة. مشاركة يعتبرها المحللون رمزا لـ”وحدة الشعب والقيادة” في دعم القضية الفلسطينية.
مهاجرو أفغانستان… صوت آخر من ألم مشترك
على أطراف الساحة، يظهر عدد من الشباب الأفغان وهم يحملون أعلام فلسطين. هانية قادري، طالبة في جامعة “العلم والصناعة” تبلغ من العمر 23 عاما، تقول بالفارسية الفصحى:
“نحن أيضا ذقنا مرارة الحرب، وعشنا تحت الاحتلال. فلسطين بالنسبة لنا ليست دولة بعيدة، بل جرح مألوف. جئت اليوم لأقول إن شعب أفغانستان، وشعب إيران، وشعب فلسطين، جميعنا في قارب واحد.”
سوقٌ متنقل… بين الشعار والخبز
على جانب شارع “كاركر”، كان بعض الباعة الجوالين يبيعون الأعلام والكوفية الفلسطينية. من بينهم جواد رستمي، 42 عاما، يقول:
“عملنا هو البيع، لكن اليوم لا نسعى فقط وراء المال. جئت لأكسب رزقي، ولكن أيضا لأرفع صوتي. عندما أرى هذا الحشد من الناس الحاضرين بعزيمة، أصدق أن الأمل بصنع عالم أفضل لا يزال ممكنا.”
نهاية المسيرة… وبداية الصلاة
مع انطلاق أذان الظهر عبر مكبرات الصوت، جلس الحشد بهدوء. تشكّلت صفوف الصلاة في الشوارع، ولا يزال الكثيرون يرفعون الأعلام في أيديهم. بعد إقامة صلاة الجمعة، تُختتم المراسم الرسمية، إلا أن كثيرين بقوا في أرجاء الجامعة وفي الشوارع المحيطة يتبادلون الأحاديث أو يلتقطون صورا تذكارية.
صوت لا يخبو
في ختام المراسم، يقول إبراهيم عبد الله، لاجئ فلسطيني يبلغ من العمر 51 عاما ويقيم في طهران:
“فقدتُ بيتي، ونُفينا منذ سنوات طويلة، لكن اليوم، حين رأيت هذا الحشد، شعرت أن وطني لا يزال حيا. هؤلاء الناس، هذه الأعلام، صوت الصلاة… كلها تبعث برسالة أمل، وتحيي في داخلي رجاء النصر.”
يوم القدس… بيان من أعماق الشعب
مسيرة يوم القدس العالمي لعام 2025 لم تكن مجرد تذكير بمبادرة تاريخية، بل شهادة حية على استمرار إيمان جمعي. في زمنٍ تلوّث فيه خطاب الإعلام العالمي بالصمت والتزييف حول فلسطين، عادت شوارع طهران لتكون لسان حال الشعب.
شعب جاء كل منهم بدافع مختلف؛ الغضب، الشفقة، الإيمان، الضمير، أو فقط بدافع الإنسانية. صوت الناس في يوم القدس لا ينتهي عند أذان الظهر، بل يبقى صداه في وجدانهم حاضراً.
في نظر كثير من المشاركين، يوم القدس ليس فعالية رمزية تُقام كل عام، بل هو بيان صادر من قلب أمة، موجَّه إلى عالم لا يزال يبحث عن العدالة.